يشكل الكبد بوزنه 1.5 كم في جسم الإنسان ما يعادل 1/36 من حجم الجسم
البالغ، ولكنه يشكل 1/8 من وزن الجنين في بطن أمه، بمعنى أن أكبادنا تصغر
بالنسبة لحجم أجسامنا عندما نولد ولو استمر الكبد بنفس درجة نموه كما هو في
الجنين فإن هذا معناه سرطان الكبد، هناك هرمون مسؤول عن إعطاء إشارات
لخلايا الكبد بالتوقف عن النمو والانقسام بعد الولادة، ولكنه يترك لها
المجال في أن تستبدل نفسها أو تعيد بناء نفسها، فيتكون الكبد من خلايا
ثُمانية الشكل تقريبا تشكل كل مجموعة فيها قسما في مصنع يستلم المواد الخام
من الدم عبر الأوردة والشعيرات الوريدية الداخلة إلى الكبد ويضخ إنتاجه في
الشعيرات الوريدية والأوردة الخارجة منها، هذا بالإضافة إلى صناعات مواد
خام وإعادة تدوير نفايات يتم إرسالها عبر القنوات المرارية إلى الجهاز
الهضمي لهضم الطعام وهي ما نسميها بالعصارة الصفراوية.
يمر من الكبد
1.5 لتر من الدم كل دقيقة بغرض استخلاص المواد الخام أو التنقية أو صناعة
مواد خام للجسم وهذا يعني أن الكبد في خلال حياة إنسان عمره 60 عامًا
تقريبًا يكون قد قام بالتعامل مع 60×12×30×24×60×1.5 لتر من الدم يعني
46.656.000 ستة وأربعين مليونًا ونصف مليون لتر من الدم أي ما يعادل 46.656
مترًا مكعبًا من الدم، علما أن المتر المكعب عبارة عن 6 براميل، وحتى نكون
قريبين من الواقع شيئا ما فإن كبد الإنسان الذي عمره 60 عاما يكون قد
تعامل مع ما يعادل إنتاج أسبوع من النفط الخام في المملكة العربية
السعودية.
وَيُعَدّ الكبد مصنعًا كيميائيٌّا لا يتوقف طوال الأربع
والعشرين ساعة طوال مدة حياة الإنسان يقوم بأعباء (الإنتاج، التخزين، إعادة
التدوير، التوزيع) ـ لأعداد ضخمة من المواد الغذائية اللازمة لصحة الجسم
الإنساني.
ولو أن شركة تصنع كيماويات رغبت في إنشاء مصنع كيميائي
يقوم بنفس نشاطات ووظائف الكبد فإنها بحاجة لقطعة أرض تبلغ مساحتها عدة
هكتارات لتصنيع الكيميائيات البسيطة التي ينتجها الكبد، أما المعقدة فمن
المستحيل القيام بها في هذا المصنع، وتحتاج الشركة لمصنع يقام على 50.000م2
من الأراضي لينشئ مصنعًا يقوم بعمل وظائف الكبد البسيطة، يعني 72 قطعة أرض
في مخطط مساحة كل أرض فيه 700م2.
يقوم الكبد بتصنيع الجلـوكوز
والبروتينات كمواد أولية خام لجميع الجسم، كما أنه ينتج المواد الخام
الرئيسية اللازمة لتخثر الدم والمواد الخام اللازمة لصناعة الهرمونات، كما
أن الكبد يقوم بإزالة المواد السامة من الدم، ويقوم بتكسير مواد معقدة مثل
الدهون إلى وحدات أولية ليسهل التعامل معها في بقية أجزاء الجسم سواء
بالهضم أو الإخراج أو غير ذلك، وهو يقوم بتخزين الحديد والفيتامينات،
وإنتاج عدد كبير من الأنزيمات المسؤولة عن عمليات الامتصاص أو التخلص من
المواد الكيميائية التي تسبح في الدم، ويقوم الكبد بإبطال سُمّيّة كثير من
المواد والمخلفات الكيميائية الناتجة عن هضم الطعام، أو حتى الداخلة إلى
الجسم عن غير طريق الطعام مثل التي تدخل عن طريق الهواء الملوث أو
السّمّيّات الداخلة عبر الجلد أو الخمور مثلا أو التدخين.
ويقوم
الكبد بإبطال مفعول هذه السّمّيّات عن طريق تحوير شكلها الكيميائي،
وبالتالي يحولها إلى مواد أقل ضررًا أو حتى مواد نافعة مثل ما يحدث في
العصارة الصفراوية التي تهضم الدهون، إن عملية إبطال مفعول مادة ضارة واحدة
قد يحتاج إلى أكثر من مائة خطوة كيميائية تحتاج لأكثر من 50 أنزيمًا يقوم
الكبد بهذه العملية المعقدة تقريبًا يوميٌّا وعلى مدار الأربع والعشرين
ساعة، بل إن الضغط النفسي يولّد أحيانا سمّيّات يضطر الكبد للتعامل معها..
كيف؟ عند وجود مؤثّر نفسي أو عاطفي أو إرهاق فإن هناك هرمونات يتم إفرازها
بكمية أكثر من المعدل الطبيعي، فمثلا السهر المتواصل يجعل الجسم مضطرٌّا
لإفراز كميات كبيرة من هرمون الأدرينالين ـ إن صاحَبَه شدة وضغط نفسي، وهذا
يفضي إلى كثرة المخلفات الناتجة عن عملياته الكيميائية، وهذا معناه زيادة
عبء على الكبد.
يقوم الكبد بإفراز جزء كبير من المخلفات في صورة
العصارة الصفراوية، وينتج الكبد ما يعادل لترًا واحدًا يوميٌّا، فقط
تَصوَّر مصنعًا يتعامل مع 1.5 لتر لكل دقيقة، ويخرج مخلفات مقدارها 1 لتر
يوميٌّا، بمعنى أن نسبة الاستخدام لنسبة المخلفات هي 2000 ـ 1، وبالرغم من
هذه النظافة المتناهية فإن لتر المخلفات هذا له فائدة في الهضم والإخراج،
في حياة الإنسان البالغ من العمر 60 عامًا يكون الكبد قد صنع 60×12/30
لترًا من العصارة الصفراوية، أي 21.600 لتر من العصارة الصفراوية اللازمة
لهضم الدهون، وإخراج المخلفات عبر البول والبراز، تنتقل العصارة الصفراوية
من مكان إنتاجها في خلايا الكبد إلى مكان تخزن فيها أو تفرغها في الاثني
عشر عبر شبكات أنابيب محكمة الصنع تماما مثل فروع الشجرة تبدأ صغيرة جدا من
الأعلى وتنتهي كبيرة في الأسفل فالجذع الواحد للشجرة هو عبارة عن تجمع
لمئات آلاف الفروع الصغيرة بمعنى أن العصارة الصفراوية تنتقل عبر شبكة
أنابيب بالغة التعقيد، ليس هذا فحسب بل إنها تسير في اتجاه واحد فقط على
الرغم من أنها تأتي من اتجاهات متعددة ومختلفة، فقط تَصوَّر شبكة أنابيب
بتعقيد شجرة واحدة وكل فرع يصب في اتجاه واحد دون انسداد ودون ارتجاع، دون
تأثير للجاذبية أو وضعية محددة، ثم إن هناك عوامل تحدد متى يتم فتح الصمام
الرئيس للتصريف ومتى يتم غلقه لتعبئة خزان التخزين (المرارة) وعلما بأن
خزان التخزين يفتح فقط استجابة لنداء هضم الدهون في الاثني عشر، وليس في أي
مكان.
فهذه المدينة الصناعية الكيميائية تقوم بإنتاج 50.000 أنزيم
لازم لعمليات حيوية للهضم، تكرر ملايين اللترات من الدماء تختزن وتصنع
المواد اللازمة للطاقة وتبطل مفعول السّمّيّات.
ما معنى ما سبق معناه عزيزي القارئ:
عندما
تقوم بأكل بيضة فتذكر أن مدينة صناعية كاملة تساعدك في أكل هذه البيضة،
وهناك من المرضى من يعني لهم أكل بيضة واحدة خطورة بالغة لأن أكبادهم لا
تستطيع التعامل مع البروتينات الموجودة فيها، عندما تصاب بوخز شوكة من
زهرة، أو عندما تقوم بخياطة أزرار ثوبك وتصاب بوخز إبرة وتظهر نقطة دم ثم
تتلاشى هذه الوخزة، فإن السبب هو تخثر الدم وسد الثقب في جهاز الأنابيب
الذي يوصل الدم من مكان لآخر، وتذكر أن تخثر الدم كان يسبب ما تنتجه
المدينة الصناعية من مخثرات الدم، وتذكر أن هناك مرضى من نوع معين يسبب وخز
الشوكة أو قطع سكين صغير أثناء عمل طبق من السلطة مشكلة عويصة قد تودي
بحياتهم، عندما تعطي ابنك لقاحًا ضد الجدري أو شلل الأطفال مما يعني عدم
إصابة ابنك بأحد هذه الأمراض الفتاكة ـ فإن هذا يعني أن المدينة الصناعية
قامت بتصنيع مضادات متخصصة لفيروسات أو بكتريا مثل الأمراض وفي حالة دخولها
إلى الجسم فإنها سوف تُبادُ فورًا وبلا هوادة، عندما تخطئ وتأخذ جرعة دواء
زائدة عن الحد فإن المدينة الصناعية ستقوم بحساب الكمية التي تحتاجها ثم
تتخلص من الباقي فورًا، أما عندما تكون محتاجًا لهرمون البلوغ (سواء
للذكورة أو الأنوثة) فإن المدينة الصناعية تكون جاهزة لتزويدك بالمواد
الخام لصناعة الهرمون الذي يتحكم في نبرة صوتك وتوزيع شعر جسمك وتوزيع
الدهن في مناطق جسمك المختلفة.
عندما تكون صائمًا في رمضان أو لا
تستطيع أن تجد أكلاً، وبالرغم من ذلك تقوم عمليات جسمك الحيوية بكافة
وظائفها وبإتقان تام ـ فإن ذلك بسبب مخزون المدينة الصناعية من الوقود
المسمى الجيلاكوجين، والذي يتم تخزينه للأوقات التي لا يتوفر فيها الجلوكوز
وهو الوقود الوحيد للجسم، عندما نرفع شيئًا ثقيلاً بجهد عضلي كبير أو حتى
عندما تضطر للهرب من شخص يهاجمك أو تهاجم شخصًا للدفاع عن نفسك مثلاً ـ فإن
الطاقة الكامنة في العضلات إنما هي وقود مخزن تم تخزينه بمساعدة الإنزيمات
المنتجة في المدينة الصناعية، فهناك الكثير الكثير جدٌّا وما سبق فقط
أمثلة عن ماذا يحدث، تلك المدينة الصناعية الضخمة التي تقبع تحت القفص
الصدري في الجانب الأعلى من بطن كل إنسان فينا، أما كيف يحدث ما تحدثنا عنه
فالأمور معقدة جدٌّا وليس هذا المجال مجالها، وهي من التعقيد بمكان لدرجة
أن هناك مئات الألوف من البحوث، ومئات مراكز الأبحاث العالمية المتخصصة في
هذه القضية.
عزيزي القارئ:
قبل أن أختم دعني أذكر حقيقة واحدة وهي أن الكبد يستطيع أن يعوض حتى 75%
مما فقد منه إن وجد 25% منه، وهذه القدرة فقط هي ما أعطت المجال أمام تخصص
كامل في الطب هو جراحة الكبد، ولولا هذه المقدرة الهائلة على إعادة البناء
لما أمكن عمل عملية جراحية واحدة في الكبد كإزالة ورم أو سرطان أو حتى
إزالة جزء غير صالح مثل ما يحدث بعد إصابات السيارات.
ألا يستحق هذا المصنع أن نؤدي واجبنا نحوه من خلال:
عدم شرب الخمور، عدم التدخين، عدم الإفراط في الأطعمة غير المفيدة مثل
وجبات ماكدونالدز؟، والأهم من ذلك كله، ألا يستحق ما سبق منا أن نقف
متأملين قول الحق ـ تبارك وتعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لا
تُحْصُوهَا}... (إبراهيم : 34) دعونا نحمد الله كلما أكلنا أكلة هنيئة
لذيذة، دعونا نشكره ـ سبحانه ـ أننا ما زلنا أحياء بعد عشرات بل مئات
الوخزات والجروح، بل وربما العمليات بفعل نعمة تخثر الدم، دعونا نسبح بحمد
من أعطانا نعمة الكبد ـ والتي هي بحد ذاتها مصدر لآلاف النعم، سبحانه الله.